حين تولى الأمير محمد بن سعود بن مقرن إمارة الدرعية، في منتصف عام 1139هـ الموافق بداية عام 1727م، كانت الإمارة تعاني الضعف والانقسام وعدم الاستقرار، شأنها شأن إمارات وبلدات وسط الجزيرة العربية. وما زاد الطين بِلَّة، هو مرض الطاعون الذي انتشر في كامل الجزيرة، متسببًا في وفاة أعداد كبيرة من الناس.

في ظل هذه الظروف الاستثنائية، والتحديات السياسية والاجتماعية، أقدم الأمير الشاب على فعلٍ سيؤلِّب عليه القاصي والداني مجتَمعَين. وهذا الفعل الجريء، تمثّل في توحيد شطرَيْ الدرعية تحت راية واحدة، بعد أن كانت منقسمة إلى مركزين سياسيين، ليضع بذلك اللبنة الأولى في بناء الدولة السعودية الكبرى.

 

كانت معظم إمارات نجد منشغلة بتناحرها فيما بينها، وسباقاتها لتقديم الولاءات للزعامات والقوى الإقليمية، وكان الأمير محمد بن سعود منشغلًا بترتيب الشؤون الداخلية لإمارته، والعمل على بنائها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لترسيخ أمنها واستقرارها. إلى جانب انشغاله في التصدي لهجمات الإمارات المجاورة، الرامية إلى تقويض هذه الإمارة الصغيرة الموحَّدَة، التي بدأت تشكل خطرًا على المصالح الشخصية للزعامات المتفرقة.

سبعة عشر عامًا (1139- 1157هـ / 1727-1744م)، قضاها الأمير محمد بن سعود بين بناء إمارته وترسيخ دعائمها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والعملية أيضًا، وبين الدفاع عن هذه المكتسبات التي تفتقر إليها معظم إمارات وسط الجزيرة العربية. وصارت نهضة الدرعية، وسياسة أميرها القائمة على العدل والمساواة وحسن الجوار وتأمين طرق الحج والتجارة، حكايةً يتناقلها الرواة، ومقصدًا لكثير من سكان الإمارات المجاورة، وحتى البعيدة نسبيّاً.

ولعلَّ هذا ما دفع بالشيخ محمد بن عبد الوهاب للجوء إلى الدرعية وأميرها، بعد أن أُخرج من “العيينة” سنة (1157ه / 1744م)، لتشهد الدرعية لقاءً تاريخيّاً بين الشيخ والأمير، أسس لما عُرف لاحقًا بـ “ميثاق الدرعية”، الذي نصَّ على بدء التعاون للتوسع في نشر الدعوة الدينية والسياسية، لتوحيد القبائل والإمارات تحت راية التوحيد، التي هي راية الدولة.

غيّرت هذه المرحلة وجه الجزيرة العربية كاملاً، إذ خلع محمد بن سعود عباءة الإمارة، وارتدى عباءة الإمامة، محوّلًا استراتيجية الدرعية من الدفاع عن نفسها، إلى الهجوم ومدَّ نفوذها إلى الخارج. وقد حاول الإمام محمد بن سعود، في بداية هذه المرحلة، نشر الدعوة سلمًا في المناطق القريبة منه، وحين لم تُقابل دعوته السلمية إلا صلفًا وتعنّتًا، بدأ بإرسال عددٍ من الحملات، واستطاع أن يشكّل دولة قوية تضم نجد والأحساء والحجاز والحرمين الشريفين وعسير وجنوب غرب البلاد.

أثار تنامي الدولة السعودية الأولى وضم الحرمين الشريفين إليها، حفيظة الدولة العثمانية، وزعزع صورتها في العالم الإسلامي، ما دفعها إلى شن حملات عديدة عبر الشام والعراق لإنهاء الدولة السعودية، التي فشلت جميعها، فلجأ العثمانيون إلى واليهم على مصر “محمد علي باشا”، الذي قام بتجهيز حملة كبيرة، أسند قيادتها لابنه “طومسون”، وأرسلها للقضاء على الدولة السعودية سنة 1226ه – 1811م، وبعد معارك أبلى فيها الجيش السعودي بلاءً حسنًا نحو سبع سنوات في مواجهة الدولة العثمانية ممثلة في جيش محمد علي باشا، كان إسدال الستار على الدولة السعودية الأولى، ولكنها لم تكن سوى جولة، إذ قامت هذه على أسس متينة، قوامها تحقيق العدالة والوحدة الاجتماعية على أسس الدين الإسلامي، وازدهرت بلدة الدرعية التي كانت عاصمة الدولة السعودية آنذاك، وانتشرت فيها الثقافة والعلوم، وأصبحت مركزًا تجاريًا، ومستراحًا للمسافرين والحجاج الماريّن بها، ولم يكن لهذه الأسس القوية أن تذروها رياح المتربصين بها، ولهذا امتدَّت، لتأتي الدولة السعودية الثانية قوية كسابقتها، ثم كان فتح الرياض، وتأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وجاء من بعده أبناؤه البررة، ليعلو البناء، وتستمر مسيرة التنمية والتطوَّر، لتتبلور في مملكة الرؤية التي  تتقدَّم بإطِّراد يومًا بعد يوم، في ملحمة يومية تستحق احترام العالم وتقديره.