الإمام محمّد بن سعود: متانة التأسيس

إنّ فكرة الاحتفال بيوم تأسيس المملكة العربية السعودية لم تأتِ إلا تأكيدًا للقيم التي يحملها هذا اليوم، وترسيخًا لفكرة أنّ النهج الذي سارت عليه المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها حتى وقتنا الراهن لم يزل قائمًا على الجهود المباركة، والقيم السامية، وأنّ الحفاوة بهذا اليوم ليست من باب الوقوف على أمجاد الأمس فقط، بل للإضاءة على مسيرة تاريخية كاملة، نشهد إنجازاتها المتجددة كل يوم، وتضيء على المستقبل ليتجلى أمامنا حافلًا بالسمو كماضينا وحاضرنا، وعندما يكون الحدث هو التأسيس، فلا يمكن أن نفيه حقه بالفخر والإجلال إلا بالعرفان لجهود من وقف وراءه، وبذل جهود سامية لإرساء جذور دولة يشهد التاريخ بإنجازاتها، ألا وهو الإمام محمد بن سعود رحمه الله، مؤسس الدولة السعودية التي نهضت على تعاليم كتاب الله وسنة رسوله الكريم.

ولد الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن عام 1090 هـ / 1679 م، ونشأ وترعرع في “الدرعية” وكان التديّن، وحب الخير، والشجاعة، والقدرة على التأثير، من أبرز الصفات التي عرفت عنه، وقد انعكست مشاركته مع والده في شبابه بترتيب أوضاع الإمارة على خبرته وتجربته، حيث شارك الإمام في الدفاع عـن “الدرعية” عندما غزاها سعدون بن محمد زعيم بني خالد في الأحساء وساهم بالصمود ضد العدو ودحره، فشخصيته امتداد لسلف عريق من أجداده الذين بنوا الدرعية وحكموها، وانتقل بها من دولة المدينة إلى دولة واسعة، إذ تولّى الحكم في أوضاع استثنائية في منتصف 1139هـ ( فبرايـر 1727م)؛ فقد عانت الدرعية قبيل توليه الحكم من ضعف وانقسام لأسباب متعددة، وانتشار مرض الطاعون في جزيرة العرب خلال تلك الفترة وتسببه في وفاة أعداد كبيرة مـن الناس. (1)

ومن صفاته التي شهد عليها التاريخ، وعرفها من جاء بعده لما خلّفهولا تُنسب الإنجازات للقادة إلّا بتسطيرهم حكايات صمود أمام تحديات عظمى، فالنهوض بالأمة في ظل شدائدها هو ما يحسب تاريخًا وبطولات تُذكر وتُمجّد، والإمام محمد بن سعود – رحمه االله – هو أحد الرواد الكبار، والبناة العظام في تاريخ أمتنا الخاص والعام،  فقد قيَّضه االله تعالى لكي ينهي – بتوفيق االله – حقبة عصيبة تراكمت فيها البدع والمظالم والجهالة، وانحرفت عقائد كثير من المسلمين، ولكي يبدأ عهدًا جديدًا قوامه عقيدة التوحيد الصافية، وشريعة الإسلام الخالدة العادلة، لقد نصر الإمام دعوة الإسلام، وسخر سلطانه ووسائل ملكه لتجديد دعوة التوحيد، وتطبيق أحكام الشريعة (2).

من أثر طيب، أنه كان حسن السيرة وفيًا، فقد عُرف بحسن معاملته وإنصافه للمظلوم، ورد الحق إلى نصابه، كما أنّه كان -رحمه الله- كثير الخيرات والعبادة، وذُكر أنّه يحبّ الخلوة، فضلًا عن شجاعته التي عرفت عنه، والتي ظهرت جليّة بقيادته الجيوش في المراحل الأولى من غزوات الدولة لتوحيد نجد، ومن الخصال الكريمة التي كان يتخلّق بها منذ عهد الإمارة الكرم ومساعدة المحتاجين، سواء أكانوا من أهل الدرعية أم من غيرهم، وتفقده الأمور العامة لرعيته بحفظ حقوقهم ودفع المظالم عنهم، وكل هذا نابع من خصلة التديُّن التي اشتهر بها (3).

وقد خطّ الإمام رحمه الله سجلًا من الإنجازات التي تشكل جذورًا راسخة نمت واستطالت حتى غدت المملكة العربية السعودية التي نشهدها اليوم، ومن أبرز إنجازاته على الصعيد السياسي، توحيد الدرعية تحت حكمه، والإسهام في نشر الاستقرار، فاتحاد الأمة تحت راية واحدة وفي ظلِّ قيادة حكيمة هو مبعث أمنها وسلامها، كما أنّ الاستقلال السياسي وعدم التبعية لأيِّ نفوذ، هو من أبرز صور القوة التي تنعكس على حياة الشعب وازدهارها، وقد استمرَّ الإمام بدعوته البلدات للانضمام إلى الدولة السعودية، لتحيا بكنف الأمن والسلام اللذين أرساهما بجهوده المباركة، حيث تمكن بحكمة من تنظيم موارد الدولة، بالإضافة إلى بناء سور الدرعية للتصدي للهجمات الخارجية حفظًا على أمن الأرض والشعب، ولم يصرفه الاهتمام بالأمور الخارجية عن رعاية الشأن الداخلي، فقد عمل على تقوية مجتمع الدرعية، ومناصرة الدعوة الإصلاحية وحمايتها، وتأمين طرق الحج والتجارة بحرصه على الاستقرار الإقليمي، وقدرته على التصدي لعدد من الحملات المعادية (4).

وخلال المجهود الحربي الضخم في سبيل مشروعه الوحدوي عمل على نشر التعليم وتحويل الدرعية إلى حاضرة علمية، ففي الجانب الاقتصادي كان سكان المنطقة مكونين من شريحتين رئيسيتين هما سكان الحاضرة وأهل البادية، وكان سكان الحاضرة يعملون في مهنتين أساسيتين هما التجارة والزراعة، ولهذا سعى الإمام محمد طوال فترة حكمه إلى تأمين طرق التجارة من عاصمته إلى المناطق المجاورة لها، وبينها وبين بقية المناطق في شبه الجزيرة العربية، كما قام بتشجيع الزراعة وتَمكِين المزارعين من الاستفادة القصوى من أراضيهم، فتحولت الدرعية وهي على ضفاف وادي حنيفة لواحة زراعية تمد نفسها والبلدات المجاورة لها من منتوجاتها الزراعية المختلفة، وكان أهل البادية رغم تنقلهم المستمر إلا أنَّ تبعيتهم لحكم الدرعية جعلهم أهل إنتاج، حيث كانوا يزودون البلدات النجدية بما تحتاجه من لحوم الجمال والخراف وألبانها وسمنها ويتبادلون مع أهل تلك البلدات البيع والشراء بأخذ ما يحتاجونه من أرزاق لحياتهم في البادية، فتحوَّلت الدرعية بذلك إلى محطة تجارية آمنة في وسط شبه الجزيرة العربية (5).

وعلى الرغم مما تعرضت له الدولة في عهده من الحملات العسكرية التي هدفت إلى إضعافها أو القضاء عليها، إلا أن الدولة السعودية الأولى صمدت أمام جميع هذه الحملات، بل إنها تمكنت في عهده وبفضل قيادته من مد نفوذها جنوبًا إلى حاير سبيع عدا الرياض، وشمالاً إلى الشعيب والمحمل وبعض بلدان سدير، وغربًا إلى ضرما والقويعية وأغلب بلدان الوشم، وبهذا الامتداد تكونت دولة عربية قوية نشرت الأمن والاستقرار في منطقة كانت تسودها الفوضى وغياب السلطة المركزية (6).

(1) وكالة الأنباء السعودية، يوم التأسيس قبل ثلاثة قرون الإمام محمد بن سعود يؤسس كيان الدولة السعودية، 2023م، متاح عبر الرابط:

https://www.spa.gov.sa/w1857788 .

(2) الإمام محمد بن سعود دولة الدعوة والدعاة، عبد الله بن عبد المحسن التركي، ص2.

(3) الإمام محمد بن سعود وجهوده في تأسيس الدولة السعودية الأولى، عبد الرحمن بن علي العريني، مكتبة الملك فهد، 1991م، ص57-59.

(4) اليوم، إنجازات الإمام محمد بن سعود، 2023، متاح عبر الرابط:

https://www.alyaum.com/articles/6454182 .

(5) المدينة، جهود الإمام محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية وبناء مشروع وحدوي، فبراير 2032م، متاح عبر الرابط:

https://www.al-madina.com/article/82851.

(6) الديوان الملكي، الأئمة والملوك، الإمام محمد بن سعود، متاح عبر الرابط:

http://176.105.150.185/internal/kingdomKings.html .